فصل: ثم خرجت الفرنج بعد أن ملكوا عكا قاصدين عسقلان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 ثم خرجت الفرنج بعد أن ملكوا عكا قاصدين عسقلان

ليأخذوها أيضًا من المسلمين وساروا على الساحل والسلطان وعساكره قبالتهم إلى أن وصلوا إلى أرسوف فكان بينهما قتال عظيم ونال المسلمين وهن شديد‏.‏

ثم ساروا على تلك الهيئة تتمة عشر منازل من سيرهم من عكا فأتى السلطان الرملة فأتاه من أخبر بأن القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرجال والعدد والآلات فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وهل الصواب خرابها أو بقاؤها فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل في قبالة العدو ويتوجه السلطان بنفسه ويخربها خوفًا من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة ويأخذ بها القدس وينقطع بها طريق مصر وامتنع العسكر من الدخول وخافوا مما جرى على المسلمين بعكا‏.‏

فلا قوة إلا بالله‏.‏

ورأوا أن حفظ القدس أولى فتعين خرابها من عدة جهات وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان من سنة سبع وثمانين وخمسمائة فسار إليها السلطان في سحر يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان المذكور‏.‏

قال ابن شداد‏:‏ وتحدث معي في معنى خرابها يعني عسقلان بعد أن تحدث مع ولده الملك الأفضل أيضًا في أمرها ثم قال السلطان‏:‏ لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهم منها حجرًا واحدًا ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة للمسلمين فما الحيلة في ذلك‏!‏ فلما اتفق الرأي على خرابها أوقع الله ذلك في نفسه وأن المصلحة فيه لعجز المسلمين عن حفظها‏.‏

وشرع في إخرابها في سحر يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة المذكورة وقدم السور على الناس وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنة معلومة وبرجًا معلومًا يخربه ودخل الناس البلد ووقع فيهم الضجيج والبكاء لفرقة بلدهم وأوطانهم وكان بلدًا خفيفًا على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبًا في سكنه فلحق الناس على خرابه حزن عظيم‏.‏

وشرع أهل البلد في بيع ما لا يقدرون على حمله فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد حتى باعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واختبط أهل البلد وخرجوا بأولادهم وأهليهم إلى الخيم وتشتتوا فذهب منهم قوم إلى مصر وقوم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة‏.‏

واجتهد السلطان وأولاده في خراب البلد كي لا يسمع العدو فيسرع إليه فلا يمكن إخرابه وكانت الناس على أصعب حال واشتد تعب الناس مما قاسوه في خرابها‏.‏

وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل من حلب من أخبر أن الفرنج تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم من نفوس الناس والعساكر من الضجر من القتال وكثرة ما عليه من الديون فكتب السلطان إلى أخيه الملك العادل يأذن له في ذلك وفوض الأمر إلى رأيه وأصبح السلطان يوم الجمعة وهو مصر على الخراب ويستعجل الناس عليه ويحثهم على العجلة فيه وأباحهم ما في الهري الذي كان مدخرًا للميرة خوفًا من أن يهجم العدو والعجز عن نقله‏.‏

ثم أمر السلطان بإحراق البلد فأضرمت النيران في بيوته ولم يزل الخراب يعمل في البلد إلى سلخ شعبان المذكور ثم أصبح السلطان يوم الاثنين مستهل شهر رمضان أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر خراب البلد بنفسه وخواصه‏.‏

قال ابن شداد ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه يعني الملك الأفضل‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى السلطان الرملة وأشرف عليها وأمر أيضًا بإحراقها وإخراب قلعتها يعني الرملة فأحرقت قلعتها خوفًا أيضًا من الفرنج‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشر رمضان تأخر السلطان والعسكر إلى جهة الجبل ليتمكن الناس من تسيير دوابهم لإحضار ما يحتاجون إليه‏.‏

ثم شرع السلطان أيضًا في خراب قلعة النطرون وكانت قلعة منيعة فشرع الناس في ذلك‏.‏

ثم ذكر ابن شداد فصلًا طويلًا يتضمن الصلح بين الأنكلتير ملك الفرنج وبين السلطان صلاح الدين المذكور إلى أن قال‏:‏ وحاصل الأمر أنه تم الصلح بينهم وكانت الأيمان يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ونادى المنادي بانتظام الصلح وأن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة فمن شاء من كل طائفة أن يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور فليفعل‏.‏

وكان يومًا مشهودًا نال الطائفتين فيه من السرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد علم الله تعالى أن الصلح لم يكن عن مرضاة السلطان لكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر من القتال ومظاهرتهم للمخالفة‏.‏

وكان مصلحة في علم الله تعالى فإنه اتفقت وفاته بعد الصلح فلو اتفق ذلك في أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر‏.‏

ثم إن السلطان أعطى العساكر الوافدة عليه من البلاد البعيدة برسم الغزاة والنجمة دستورًا فساروا عنه‏.‏

وعزم السلطان على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة وأمن الناس وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج وجاؤوا هم أيضًا إلى بلاد المسلمين وحملت البضائع والمتاجر إلى البلادة وتوجه السلطان إلى القدس ليتفقد أحواله وتوجه أخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب وابنه الملك الأفضل إلى دمشق‏.‏

ثم تأهب السلطان إلى المسير إلى الديار المصرية ولم يزل كذلك إلى أن صح عنده سير مركب الانكلتير ملك الفرنج إلى بلاده في مستهل شوال فعند ذلك قوي عزمه على أن يدخل الساحل جريدة يتفقد أحواله وأحوال القلاح البحرية إلى بانياس‏.‏

ثم يدخل دمشق فيقيم بها قليلًا ثم يعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصرية‏.‏

قال ابن شداد‏:‏ وأمرني بالمقام بالقدس إلى حين عوده إليه لعمارة بيمارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي أنشأها به وسار ضاحي نهار الخميس السادس من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏

فلما فرغ السلطان من افتقاد أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل دمشق بكرة يوم الأربعاء سادس عشر شوال وفيها أولاده‏:‏ الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الذين الخضر المعروف بالمشمر وأولاده الصغار وكان السلطان يحب البلد يعني دمشق ويؤثر الإقامة به على سائر البلاد وجلس للناس في بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه وحضروا عنده وبلوا أشواقهم منه وأنشده الشعراء ولم يتخفف عنه أحد من الخاص والعام وأقام ينشر جناح عدله بدمشق إلى أن كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر أخيه لأنه لما وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان أقام بها ليتملى بالنظر إليه ثانيًا‏.‏

ولما عمل الأفضل الدعوة‏!‏ أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمته وكان أراد بذلك مجازاته لما خدمه به حين وصوله إلى بلده وحضر الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والآخرة وسأل الأفضل والده السلطان في الحضور فحضر جبرًا لقلبه وكان يومًا مشهودًا على ما بلغني‏.‏

قال‏:‏ ولما أصلح الملك العادل الكرك سار قاصدًا الديار الفراتية وأحب أن يدخل دمشق فوصل إليها وخرج السلطان إلى لقائه‏.‏

وأقام يتصيد حول غباغب إلى الكسوة حتى لقي أخاه الملك العادل وسارا جميعًا يتصيدان ثم عادا إلى دمشق فكان دخولهما دمشق آخر نهار يوم الأحد حادي عشرين ذي القعدة سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائة‏.‏

وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه الملك العادل وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق وكأنه وجد راحة مما كان فيه من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل فكان ذلك كالوداع لأولاده ونسي عزمه إلى مصر وعرضت له أمور أخر وعزمات غير ما تقدم‏.‏

قال ابن شداد‏:‏ ووصلني كتابه إلى القدس يستدعيني لخدمته فخرجت من القدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة وكان الوصول إلى دمشق يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر من السنة‏.‏

وركب السلطان ليتلقى الحاج في يوم الجمعة خامس عشر صفر وكان ذلك آخر ركوبه‏.‏

ولما كانت ليلة السبت وجد كسلًا عظيمًا وما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية وكانت في باطنه أكثر مما في ظاهره‏.‏

وأصبح يوم السبت متكسلًا عليه أثر الحمى‏.‏

ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت عنده أنا والقاضي الفاضل فدخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو قلقه بالليل وطاب له الحديث إلى وقت الظهر ثم انصرفنا وقلوبنا عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الأفضل ولم يكن للقاضي الفاضل في ذلك عادة فانصرف - ودخلت إلى الإيوان القبلي وقد مد السماط وابنه الملك الأفضل قد جلس موضعه فانصرفت وما كانت لي قوة للجلوس استيحاشًا له‏.‏

وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلًا بجلوس ولده الأفضل موضعه‏.‏

ثم أخذ المرض يتزايد به من حينئذ ونحن نلازم التردد له طرفي النهار وكان مرضه في رأسه‏.‏

وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفرًا وحضرًا ورأى الأطباء فصده فقصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه وكان يغلب على مزاجه اليبس فلم يزل المرض يتزايد به حتى انتهى إلى غاية الضعف‏.‏

واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب فإنه ولما كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب واشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته‏.‏

ولما كان اليوم العاشر من مرضه أيس منه الأطباء‏.‏

ثم شرع ولده الملك الأفضل في تحليف الناس له‏.‏

ثم إنه توفي - إلى رحمة الله تعالى - بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة‏.‏

وكان يوم موته يومًا لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد فقد الخلفاء الراشدين - رضى الله عنهم - وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى‏.‏

وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم وكنت أتوهم أن هذا على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس‏.‏

ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء وغسله أبو القاسم ضياء الدين عبد الملك بن زيد الدولعي خطيب دمشق وأخرج تابوت السلطان - رحمه الله تعالى - بعد صلاة الظهر مسبحي بثوب فوط فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل وصلوا عليه أرسالًا ثم أعيد إلى داره التي في البستان وهي التي كان متمرضًا بها ودفن في الصفة الغربية منها‏.‏

وكان نزوله في حفرته قريبًا من صلاة العصر‏.‏

ثم أطال ابن شداد القول في هذا المعنى إلى أن أنشد في آخر السيرة بيت أبي تمام الطائي وهو قوله‏:‏ ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام ولقد كان - رحمه الله تعالى - من محاسن الدنيا وغرائبها‏.‏

ثم ذكر ابن شداد أنه مات ولم يخلف في خزائنه من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًا ناصرية وجرمًا واحدًا ذهبًا صوريًا ولم يخلف ملكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا بستانًا ولا قرية ولا مزرعة‏.‏

وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها‏:‏ ‏"‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ‏"‏‏.‏

‏"‏ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏‏.‏

كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالًا شديدًا وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد وذعت أباك ومخدومي وداعًا لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضيًا عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك يا يوسف لمحزونون‏.‏

وأما الوصايا فما يحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام‏.‏

انتهى كلام القاضي الفاضل بما كتبه للملك الظاهر‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ واستمر السلطان صلاح الدين مدفونًا بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالي الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق ولها بابان أحدهما إلى الكلاسة والآخر في زقاق غير نافذ وهو مجاور المدرسة العزيزية‏.‏

ثم نقل من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبة في يوم عاشوراء في يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة‏.‏

ثم إن ولده الملك العزيز عثمان لما ملك دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبة المدرسة العزيزية‏.‏

قلت‏:‏ في أيامه بنى الخصي بهاء الدين قراقوش قلعة الجبل ثم قلعة المقدس ثم سور القاهرة وذرع السور المذكور سبعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ‏"‏ وكان السلطان صلاح الدين لما ملك الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس فإن الدولة المصرية كان مذهبها مذهب الإمامية فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء فعمر السلطان صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة للإمام الشافعي - رضي الله عنه - وبنى مدرسة مجاورة للمشهد المنسوب للحسين بن علي - رضي الله عنهما - بالقاهرة‏.‏

وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريين خانقاه ووقف عليها وقفا هائلًا وكذلك وقف على كل مدرسة عمرها وقفًا جيدًا وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية وأوقف عليها وقفًا جيدًا أيضًا وهي بالقاهرة وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بابن زين التجار للشافعية ووقف عليها وقفًا جيدًا وبنى بالقصر داخل القاهرة بيمارستانًا وأوقف له وقفًا جيدًا وله بالقدس مدرسة وخانقاه‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولقد فكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت‏:‏ إنه سعيد في الدنيا والآخرة فإنه فعل في الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة وليس شيء منسوبًا إليه في الظاهر فإن المدرسة التي بالقرافة ما يسمونها الناس إلا بالشافعي والمجاورة للمشهد لا يقولون إلا المشهد والخانقاه لا يقولون إلا سعيد السعداء والمدرسة الحنفية لا يقولون إلا السيوفية والتي بمصر لا يقولون إلا مدرسة زين التجار والتي بمصر أيضًا مدرسة المالكية وهذه صدقة السر على الحقيقة‏.‏

والعجب أن له بدمشق في جانب البيمارستان النوري مدرسة أيضًا ويقال لها الصلاحية وهي منسوبة إليه وليس لها وقف‏.‏

قال‏:‏ وكان مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العظيمة كثير التواضع واللطف قريبًا من الناس رحيم القلب كثير الاحتمال والمداراة وكان يحب العلماء وأهل الخير ويقربهم ويحسن إليهم وكان يميل إلى الفضائل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرفدها في مجالسه حتى قيل‏:‏ إنه كان كثيرًا ما ينشد قول أبي المنصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن إسحاق الحميري وهو قوله‏:‏ وزارني طيف من أهوى على حدر من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا فكدت أوقظ من حولي به فرحًا وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا ثم انتبهت وآمالي تخيل لي نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا وقيل‏:‏ إنه كان يعجبه قول نشو الملك أبي الحسن علي بن مفرج المعروف بابن المنجم المغربي الأصل المصري الدار والوفاة وهو في خضاب الشيب وأجاد‏:‏ ولكنه مات الشباب فسودت على الرسم من حزن عليه منازله قالوا‏:‏ فكان إذا قال‏:‏ مات الشباب يمسك كريمته وينظر إليها ويقول‏:‏ إي والله مات الشباب‏.‏

وذكر العماد الكاتب الأصبهاني في كتابه الخريدة أن السلطان صلاح الدين في أول ملكه كتب إلى بعض أصحابه بدمشق‏:‏ أيها الغائبون عنا وإن كن - - تم لقلبي بذكركم جيرانا إنني مذ فقدتكم لأراكم بعيون الضمير عندي عيانا قال ابن خلكان‏:‏ وأما القصيدتان اللتان ذكرت أن سبط بن التعاويذي أنفذهما إليه من بغداد وأن إحداهما وازن بها قصيدة صردر الشاعر وقد ذكرت منها أبياتًا في ترجمة الكندري وأولها‏:‏ # أكذا يجازى ود كل قرين أم هذه شيم الظباء العين ثم ذكر قصيدة سبط بن التعاويذي‏.‏

وهي على هذا الوزن أضربت عن ذكرها لطولها‏.‏

ثم قال ابن خلكان‏:‏ وأما القصيدة الثانية يعني التي كتبها إليه الخليفة في أوائل أمر صلاح الدين قال‏:‏ فمنها قوله‏:‏ حتام أرضى في هواك وتغضب وإلى متى تجني علي وتعتب ما كان لي لولا ملالك زلة لما مللت زعمت أني مذنب أتظنني أضمرت بعدك سلوة هيهات عطفك من سلوي أقرب لي فيك نار جوانح ما تنطفي حزنًا وماء مدامع ما ينضب أنسيت أيامًا لنا ولياليًا للهو فيها والبطالة ملعب أيام لا الواشي يعد ضلالة ولهي عليك ولا العذول يؤنب قد كنت تنصفني المودة راكبًا في الحب من أخطاره ما أركب واليوم أقنع أن يمر بمضجعي في النوم طيف خيالك المتأوب ما خلت أن جديد أيام الصبا يبلي ولا ثوب الشبيبة يسلب حتى انجلى ليل الغواية واهتدى ساري الدجى وانجاب ذاك الغيهب وتنافر البيض الحسان فأعرضت عني سعاد وأنكرتني زينب قالت وريعت من بياض مفارقي ونحول جسمي بان منك الأطيب إن تنكري سقمي فخصرك ناحل أو تنكري شيبي فثغرك أشنب يا طالبًا بعد المشيب غضارة من عيشه ذهب الزمان المذهب ثم قال ابن خلكان‏:‏ وقد مدحه جميع شعراء عصره فمنهم العلم الشاتاني واسمه - رحمه الله - مدحه بقصيدة أولها‏:‏ أرى النضر مقرونًا برايتك الصفرا فسر واملك فأنت بها أحرى ومدحه المهذب أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي نصر المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر المشهور بقصيدته التي أولها‏:‏ سلام مشوق قد براه التشوق على جيرة الحي الذين تفرقوا وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتًا وفيها البيتان السائران أحدهما‏:‏ وإني امرؤ أحببتكم لمكارمٍ سمعت بها والأذن كالعين تعشق وقد أخذ هذا المعنى من قول بشار بن برد وهو‏:‏ يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا والبيت الثاني من قول ابن الشحنة المذكور‏:‏ وقالت لي الآمال إن كنت لاحقًا بأبناء أيوب فأنت الموفق قال‏:‏ ومدحه ابن قلاقس وابن الذروي وابن المنجم وابن سناء الملك وابن الساعاتي والإربلي ومحمد بن إسماعيل بن حمدان الحيزاني‏.‏

انتهى ما أوردته من كلام ابن خلكان ومن كلام ابن وقال العلامة أبو المظفر في تاريخه مرآة الزمان‏:‏ ولما كان في سادس عشر صفر وجد السلطان كسلًا وحم حمى صفراوية ثم ذكر نحوًا مما ذكره ابن شداد إلى أن قال‏:‏ وأحضر الأفضل يعني ولده الأمراء‏:‏ سعد الدين مسعودًا أخا بدر الدين مودود شحنة دمشق وناصر الدين صاحب صهيون وسابق الدين عثمان صاحب شيزر ابن الداية وميمونًا القصري والبكي الفارسي وأيبك فطيس وحسام الدين بشارة وأسامة الحلبي وغيرهم فاستحلفهم لنفسه‏.‏

وكان عند السلطان أبو جعفر إمام الكلاسة يقرأ القران فلما انتهى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ‏"‏ وكان قد غاب فإنه فتح عينيه وقال‏:‏ صحيح‏.‏

ثم قال أبو المظفر‏:‏ وغسله ابن الدولعي وصفى عليه القاضي محيي الدين بن الزكي‏.‏

وبعث القاضي الفاضل له الأكفان والحنوط من أجل الجهات‏.‏

ثم قال‏:‏ وقال العماد الكاتب‏:‏ دخلنا عليه ليلة الأحد للعيادة ومرضه في زيادة وفي كل يوم تضعف القلوب وتتضاعف الكروب ثم انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء سحر يوم الأربعاء ومات بموته رجاء الرجال وأظلم بغروب شمسه فضاء الإفضال‏.‏

ورثاه الشعراء فمن ذلك قول بعضهم‏:‏ شمل الهدى والملك عم شتاته والدهر ساء وأقلعت حسناته بالله أين الناصر الملك الذي لله خالصة صفت نياته أين الذي كانت له طاعاتنا مبذولة ولربه طاعاته أين الذي ما زال سلطانًا لنا يرجى نداه وتتقى سطواته أين الذي شرف الزمان بفضله وسمت على الفضلاء تشريفاته لا تحسبوه مات شخصًا واحدًا قد عم كل العالمين مماته ملك عن الإسلام كان محاميًا أبدًا لماذا أسلمته حماته قد أظلمت مذ غاب عنا دوره لما خلت من بدره داراته دفن السماح فليس تنشر بعدما أقوت قواه وأقفرت ساحاته الدين بعد أبي المظفر يوسف محفوفة بوروده حافاته بحر خلا من وارديه ولم تزل متعطف مفضوضة صدقاته من لليتامى والأرامل راحم في ذكره من ذكره آياته لو كان في عصر النبي لأنزلت من سلها وركوبها عزماته بكت الصوارم والصواهل إذ خلت من كل قلب مؤمن روعاته فارقت ملكًا غير باقٍ متعبًا ووصلت ملكًا باقيًا راحاته فعلى صلاح الدين يوسف دائمًا رضوان رب العرش بل صلواته أولاد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله -‏.‏

كانوا ستة عشر ذكرًا وابنة واحدة أكبرهم الأفضل علي ولد بمصر سنة خمس وستين يوم عيد الفطر‏.‏

وأخوه لأبيه وأمه الملك الظافر خضر ولد بمصر سنة ثمان وستين‏.‏

وأخوهما أيضًا لأبيهما وأمهما قطب الدين موسى ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين‏.‏

فهؤلاء الثلاثة أشقاء‏.‏

ثم الملك العزيز عثمان الذي ملك مصر بعد أبيه ولد بها سنة سبع وستين‏.‏

وأخوه لأبيه وأمه الأعز يعقوب ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين‏.‏

والملك الظاهر غازي صاحب حلب ولد بمصر سنة ثمان وستين‏.‏

وأخوه لأبيه وأمه الملك الزاهر داود ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين‏.‏

والملك المعز إسحاق ولد سنة سبعين‏.‏

والملك المؤيد مسعود ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين‏.‏

والملك الأشرف محمد ولد بالشام سنة خمس وسبعين‏.‏

وأخوه أيضًا لأبيه وأمه الملك المحسن أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين‏.‏

وأخوه أيضًا لأبيه وأمه الملك الغالب ملكشاه ولد بالشام سنة ثمان وسبعين‏.‏

وأخوهم أيضًا لأبيهم وأمهم أبو بكر النصر ولد بحران بعد وفاة أبيه سنة تسع وثمانين‏.‏

والبنت مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل - الآتي ذكره - ابن الملك العادل وماتت عنده‏.‏

وملك بعد السلطان صلاح الدين مصر ابنه الملك العزيز عثمان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وملك دمشق بعده ابنه الملك الأفضل علي وملك حلب ابنه الظاهر غازي كما كانوا أيام أبيهم‏.‏

ثم وقع بين الملك العزيز والأفضل أمور نذكرها فيما يأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

انتهت ترجمة السلطان صلاح الدين - رحمه الله -‏.‏

ونذكر الآن ما وقع في أيامه من الحوادث ومن توفي من الأعيان في زمانه على سبيل الاختصار على عادة هذا الكتاب‏.‏

وبالله المستعان‏.‏

السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏

أعني سلطنته بعد موت العاضد العبيدي آخر خلفاء الفاطميين بمصر‏.‏

وأما وزارته فكانت قبل ذلك بمدة من يوم مات عمه الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن أيوب في يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

وقد ذكرنا حوادث وزارته فيما مضى ونذكر الآن من يوم سلطنته بعد الخليفة العاضد عني حوادث سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏

فيها خطب لبني العباس بمصر وأبطل الخطبة لبني عبيد حسب ما تقدم ذكره في ترجمة العاضد وفي ترجمة صلاح الدين أيضًا ولما وقع ذلك كتب العماد الكاتب عن السلطان صلاح الدين لنور الدين الشهيد يخبره بذلك‏:‏ قد خطبنا للمستضيء بمصر نائب المصطفى إمام العصر ولدينا تضاعفت نعم الل - - ه وجلت عن كل عد وحصر واستنارت عزائم الملك العا - - دل نور الدين الهمام الأغر وفيها بعث الملك العادل نور الدين محمود المذكور بالبشارة للخليفة فلما وصل شهاب الدين المذكور للخليفة قال في المعنى ابن الحرستاني الشاعر المشهور قصيدة أولها‏:‏ جاء البشير فسر الناس وابتهجوا فما على ذي سرور بعدها حرج وخلع الخليفة على شهاب الدين المذكور‏.‏

ثم بعث جواب الملك العادل على يد الخادم صندل وعلى يديه الخلع والتقاليد له وفي الخلعة الطوق وفيه ألف دينار والفرجية والعمامة ثم أرسل مع الخادم المذكور لصلاح الدين صاحب الترجمة خلعًا دون خلع نور الدين‏.‏

وبعث أيضًا لنور الدين سيفًا قلده للشام ثم سيفًا آخر قلده بمصر ويكون صلاح الدين نائبه بمصر‏.‏

وزينت بغداد وضربت القباب لذلك‏.‏

وفيها وقعت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين‏.‏

هذا الأمر ذكرناه في أوائل ترجمة صلاح الدين ثم سكن ذلك‏.‏

وفيها توفي حسان بن نمير الكلبي أبو الندى الشاعر المشهور المعروف بعرقلة الدمشقي ويقال له عرقلة من حاضرة دمشق كان شيخًا خليعًا أعور مطبوعًا لطيفًا ظريفًا كان اختص بالسلطان صلاح الدين وله فيه مدائح وله شعر رائق كثير‏.‏

من ذلك قصيدته المشهورة‏:‏ كتم الهوى فوشت عليه دموعه من حر نار تحتويه ضلوعه صب تشاغل بالربيع وزهره قوم وفي وجه الحبيب ربيعه يا لائمي فيمن تمنع وصله عن بغيتي أحلى الهوى ممنوعه كيف التخلص إن تجنى أو جنى والحسن شيء ما يرد شفيعه شمس ولكن في فؤادي حرها بدر ولكن في القباء طلوعه قال العواذل ما الذي استحسنته منه وما يسبيك قلت جميعه وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد العلامة أبو محمد المعروف بابن الخشاب النحوي اللغوي حجة العرب برع في فنون العلوم وانفرد بعلم النحو والعربية حتى فاق أهل عصره‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن الحسين ابن أحمد بن الحسين بن إسحاق أبو محمد الحميري ويعرف بابن النقار الكاتب‏.‏

ولد بطرابلس سنة تسع وسبعين وأربعمائة‏.‏

ولما استولى الفرنج على طرابلس انتقل منها إلى دمشق وكان شاعرًا ماهرًا‏.‏

ومن شعره - رحمه الله - القصيدة المشهورة التي أولها‏:‏ بادر إلى اللذات في أزمانها واركض خيول اللهو في ميدانها واستقبل الدنيا بصدرٍ واسعٍ ما أوسعت لك من رحيب مكانها وله‏:‏ الله يعلم أنني ما خلته يصبو إلى الهجران حين وصلته من منصفي من ظالمٍ متعتبٍ يزداد ظلمًا كلما حكمته ملكته روحي ليحفظ ملكه فأضاعني وأضاع ما ملكته لا ذنب لي إلا هواه لأنه لما دعاني للسقام أجبته وفيها توفي العاضد خليفة مصر حسب ما ذكرناه في ترجمته‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد العلامة أبو محمد المعروف بابن الخشاب النحوي اللغوي حجة العرب برع في فنون العلوم وانفرد بعلم النحو والعربية حتى فاق أهل عصره‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن الحسين ابن أحمد بن الحسين بن إسحاق أبو محمد الحميري ويعرف بابن النقار الكاتب‏.‏

ولد بطرابلس سنة تسع وسبعين وأربعمائة‏.‏

ولما استولى الفرنج على طرابلس انتقل منها إلى دمشق وكان شاعرًا ماهرًا‏.‏

ومن شعره - رحمه الله - القصيدة المشهورة التي أولها‏:‏ بادر إلى اللذات في أزمانها واركض خيول اللهو في ميدانها واستقبل الدنيا بصدرٍ واسعٍ ما أوسعت لك من رحيب مكانها وله‏:‏ الله يعلم أنني ما خلته يصبو إلى الهجران حين وصلته من منصفي من ظالمٍ متعتبٍ يزداد ظلمًا كلما حكمته ملكته روحي ليحفظ ملكه فأضاعني وأضاع ما ملكته لا ذنب لي إلا هواه لأنه لما دعاني للسقام أجبته فيها سار الملك العادل نور الدين محمود صاحب دمشق إلى الموصل وصلى بالجامع الذي بناه وسط الموصل وتصدق بمال عظيم‏.‏

ولما علم صلاح الدين صاحب الترجمة بتوجهه إلى الموصل خرج بعساكره من مصر إلى الشام وحصر الكرك والشوبك ونهب أعمالهما ثم عاد لما بلغه عود نور الدين إلى الشام‏.‏

وهذه أول غزوات صلاح الدين‏.‏

وفيها توفي الأمير نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان والد صلاح الدين المذكور‏.‏

كان أميرًا عاقلًا حازمًا شجاعًا جوادًا عاطفًا على الفقراء والمساكين محبًا للصالحين قليل الكلام جدًا لا يتكلم إلا لضرورة‏.‏

ولما قدم مصر سأله ولده السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة أن يكون هو السلطان فقال‏:‏ أنت أولى‏.‏

وكان سبب موته أنه ركب يومًا وخرج من باب النصر يريد الميدان فشب به فرسه فوقع على رأسه فأقام ثمانية أيام ومات في ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة ودفن إلى جانب أخيه أسد الدين شيركوه بن أيوب في الدار السلطانية ثم نقلا بعد سنين إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكان ابنه السلطان صلاح الدين قد عاد من الكرك فبلغه خبر موته في الطريق فوجد عليه وتأسف حيث لم يحضره‏.‏

وخلف من الذكور ستة‏:‏ السلطان صلاح الدين يوسف وأبا بكر العادل الآتي ذكره في ملوك مصر وشمس الدولة توران شاه وهو أكبر الجميع وشاهنشاه وسيف الإسلام طغتكين وتاج الملوك بوري وهو وفيها توفي الحسن بن أبي الحسن صافي ملك النحاة مولى الحسين بن الأرموي التاجر البغدادي قرأ النحو وأصول الدين والفقه والخلاف والحديث وبرع في النحو وفاق أهل زمانه وسافر البلاد وصنف الكتب في فنون العلوم من ذلك ‏"‏ المقامات ‏"‏ التي من جنس ‏"‏ مقامات الحريري ‏"‏ وكان يقول‏:‏ مقاماتي جد وصدق ومقامات الحريري هزل وكذب‏.‏

قلت‏:‏ ولكن بين ذلك أهوال‏.‏

ومن مصنفاته كتاب أربعمائة كراسة سماها ‏"‏ التذكرة السفرية ‏"‏ وفيها توفي سعد الدين بن علي بن القاسم بن علي أبو المعالي الكتبي الحظيري الحنفي كان شاعرًا فاضلًا‏.‏

والحظيرة‏:‏ قرية فوق بغداد وهي بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء وإلى هذه القرية ينسب كثير من العلماء‏.‏

ومن شعر الحظيري - رحمه الله تعالى وعفا عنه -‏:‏ صبح مشيبي بدا وفارقني ليل شبابي فصحت وا قلقي وصرت أبكي دمًا عليه ولا بد لصبح المشيب من شفق الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي نجم الدين أيوب بن شادي والد الملوك‏.‏

وملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي البغدادي بدمشق‏.‏

وأبو جعفر محمد بن الحسن الصيدلاني بأصبهان وله خمس وتسعون سنة‏.‏

وصالح ابن إسماعيل أبو طالب ابن بنت معافى المالكي مفتي الإسكندرية - رحمه الله -‏.‏

الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا‏.‏

السنة الثالثة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة تسع وستين وخمسمائة‏:‏ فيها كتب صلاح الدين صاحب الترجمة لنور الدين يستأذنه في إنفاذ جيش إلى اليمن فأذن له فبعث صلاح الدين أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيوب فسار إليها وكان فيها عبد النبي بن مهدي من أصحاب المصريين وكان ظالمًا فاتكًا فحصره شمس الدولة توران شاه في قصره بزبيد مدة حتى طلب الأمان فأذنه فلما نزل إليه قيده ووكل به وفتح صنعاء وحصون اليمن والمدائن يقال‏:‏ إنه فتح ثمانين حصنًا ومدينة واستولى على أموالها وذخائرها وقتل عبد النبي المذكور‏.‏

وولى على زبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ وعز الدين عثمان بن الزنجيلي على باقي البلاد‏.‏

وفيها قبض صلاح الدين على جماعة من أعيان الدولة العبيدية‏:‏ مثل داعي الدعاة وعمارة اليمني وغيرهما بلغه أنهم يجتمعون على إثارة الفتن واتفقوا مع السودان وكاتبوا الفرنج فقتل داعي الدعاة وصلب عمارة اليمني‏.‏

قال القاضي شمس الدين ابن خلكان‏:‏ هو أبو محمد عمارة بن أبي الحسن علي بن زيدان بن أحمد بن محمد الحكمي اليمني الملقب نجم الدين الشاعر وهو من جبال اليمن من مدينة مرطان بينها وبين مكة من جهة الجنوب أحد عشر يومًا‏.‏

وكان فقيهًا فصيحًا أقام بزبيد مدة يقرأ عليه مذهب الشافعي وله في الفرائض مصنف مشهور باليمن ومدح خلفاء مصر فقربوه وأعطوه الأموال فكان عندهم بمنزلة الوزير وكان أيضًا معظمًا قبل ذلك في اليمن ثم ظهرت أمور اقتضت خروجه منها فقدم إلى مصر في سنة خمسين وخمسمائة‏.‏

وقيل‏:‏ إن سبب قتله أنه مدح توران شاه وحرضه على أخذ اليمن بقصيدة أولها‏:‏ لعلم مذ كان محتاج إلى العلم وشفرة السيف تستغني عن القلم إلى أن قال‏:‏ هذا ابن تومرت قد كانت بدايته كما يقول الورى لحمًا على وضم وكان أول هذا الدين من رجل سعى إلى أن دعوه سيد الأمم قال العماد الكاتب‏:‏ اتفقت لعمارة اتفاقات‏:‏ منها أنه نسب إليه قول هذا البيت فكان أحد أسباب قتله وأفتى قضاة مصر بقتله وقيل‏:‏ إنه لما أمر صلاح الدين بصلبه مروا به على دار القاضي الفاضل فرمى بنفسه على بابه وطلب الدخول إليه ليستجير به فلم يؤذن له فقال‏:‏ # عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص من العجب فصلب وهو صائم في شهر رمضان‏.‏

وفيها توفي السلطان الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر صاحب الشام ومصر المعروف بنور الدين الشهيد‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ ‏"‏ ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة وكان معتدل القامة أسمر اللون واسع الجبهة حسن الصورة لحيته شعرات خفيفة في حنكه ونشأ على الخير والصلاح‏.‏

وكان زنكي يقدمه على أولاده ويرى فيه مخايل النجابة‏.‏

وفتح في أيام سلطنته نيفًا وخمسين حصنًا ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ومصر أيضًا من جملة فتوحاته وأيضًا ما فتحه صلاح الدين من البلاد والحصون هو شريكه في الأجر والثواب ولولاه إيش كان صلاح الدين‏!‏ حتى ملك مصر من أيدي تلك الرافضة من بني عبيد خلفاء مصر وقوة بأسهم‏!‏‏.‏

قلت‏:‏ وترجمة الملك العادل طويلة يضيق هذا المحل عن ذكرها وأحواله أشهر من أن تذكر‏.‏

غير أننا نذكر مرض موته ووفاته‏.‏

وكان ابتداء مرضه أنه ختن ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر فهنئ بالعيد والطهور فقال العماد الكاتب - رحمه الله -‏:‏ كلاهما لك فيه حقًا هناء وأجر فمرض بعد عوده من صلاة العيد بالخوانيق وما كان يرى الطب على قاعدة الأتراك فأشير عليه بالفصد في أول مرضه فامتنع وكان مهيبًا فما روجع فمات يوم الأربعاء حادي عشر شوال ودفن بالقلعة ثم نقل إلى مدرسته التي أنشأها مجاورة الخواصين بدمشق‏.‏

وعاش ثمانيًا وخمسين سنة‏.‏

وكانت سلطنته ثمانيًا وعشرين سنة وستة أشهر‏.‏

ورثاه العماد الكاتب بعدة مراثٍ من ذلك قوله‏:‏ يا ملكًا أيامه لم تزل لفضله فاضلة فاخره ملكت دنياك وخلفتها وسرت حتى تملك الآخره قال أبو اليسر شاكر بن عبد الله التنوخي المعري‏:‏ ‏"‏ تعدى بعض أمراء صلاح الدين بن أيوب على رجل وأخذ ماله فجاء إلى صلاح الدين فلم يأخذ له بيد فجاء إلى قبر نور الدين وشق ثيابه وحثا التراب على رأسه وجعل يستغيث‏:‏ يا نور الدين أين أيامك‏!‏ ويبكي‏.‏

فبلغ صلاح الدين فاستدعاه وأعطاه ماله فازداد بكاؤه فقال له صلاح الدين‏:‏ ما يبكيك وقد أنصفناك فقال‏:‏ إنما أبكي على ملك أنصفت ببركاته وبعد موته كيف يأكله التراب ويفقده المسلمون‏!‏‏.‏

وتسلطن بعده ولده الملك الصالح إسماعيل ولم يبلغ الحلم‏.‏

وقد مر من أخباره نبذة الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي النقيب أبو عبد الله أحمد بن علي بن المعمر العلوي ببغداد في جمادى الأولى‏.‏

والحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني العطار المقرئ في جمادى الأولى وله إحدى وثمانون سنة‏.‏

ودهبل بن علي ابن منصور بن إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن كارة الحنبلي‏.‏

وناصح الدين سعيد بن المبارك بن الدهان النحوي ببغداد وله خمس وسبعون سنة‏.‏

وأبو تميم سلمان بن علي الرحبي الخباز بدمشق‏.‏

وعبد النبي بن المهدي صاحب اليمن وكان باطنيًا استأصله أخو صلاح الدين‏.‏

وأبو الحسن علي بن أحمد الكناني القرطبي بفاس وله ثلاث وتسعون سنة‏.‏

والفقيه عمارة بن علي بن زيدان اليمني الشاعر شنق في جماعة سعوا في إعادة الدولة العبيدية‏.‏

والسلطان نور الدين محمود بن زنكي الأتابكي بن آق سنقر التركي الملكشاهي في شوال وله ثمان وخمسون سنة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وست عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏

السنة الرابعة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر فيها ملك السلطان صلاح الدين دمشق من الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين محمود حسب ما ذكرناه في ترجمته‏.‏

وكان أخذه لدمشق بمكاتبة القاضي كمال الدين الشهرزوري وابن الجاولي والأعيان وكان بالقلعة ريحان الخادم فعزم على قتاله فجهز إليه عسكر دمشق وركب صلاح الدين من الجسور فالتقاه أهل دمشق بأسرهم وأحدقوا به فنثر عليهم الدراهم والدنانير ودخل دمشق فلم يغلق في وجهه باب ولا منعه مانع فملكها عناية لا عنوة‏.‏

وفيها استخدم صلاح الدين العماد الكاتب الأصبهاني وسببه أنه التقى بالقاضي الفاضل ومدحه بأبيات منها‏:‏ عاينت طود سكينة ورأيت شم - - س فضيلة ووردت بحر فضائل ورأيت سحبان البلاغة ساحبًا ببيانه ذيل الفخار لوائل حلف الحصافة والفصاحة والسما - - حة والحماسة والتقى والنائل بحر من الفضل الغزير خضمه طامي العباب وما له من ساحل في كفه قلم يعجل جريه ما كان من أجل ورزقٍ آجل أبصرت قسا في الفصاحة معجزًا فعرفت أني في فهاهة باقل فدخل القاضي الفاضل على السلطان صلاح الدين وقال‏:‏ غدا تأتيك تراجم الأعاجم وما يحلها مثل العماد الكاتب‏.‏

فقال‏:‏ ما لي عنك مندوحة أنت كاتبي ووزيري وقد رأيت على وجهك البركة فإذا استكتبت غيرك تحدث الناس فقال الفاضل‏:‏ هذا يحل التراجم وربما أغيب أنا ولا أقدر على ملازمتك فإذا غبت قام العماد مقامي وقد عرفت فضل العماد وخدمته للدولة النورية فاستكتبه‏.‏

وفيها توفي السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقي‏.‏

وقام بعده في الملك ابنه طغرل شاه وكان صغير السن فتولى تدبير ملكه محمد بن إيلدكز الأتابك وكان يلقب بالبهلوان‏.‏

وفيها توفي يحيى بن جعفر أبو الفضل زعيم الدين صاحب مخزن الخلفاء‏:‏ المقتفي والمستنجد والمستضيء وناب في الوزارة وتقلب في الأعمال نيفًا وعشرين سنة وكان حافظًا للقرآن فاضلًا عارفًا منصفًا محبًا للعلماء والصالحين ومات في شهر ربيع الأول وكانت جنازته مشهودة‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ جلس يومًا في ديوان الوزارة فقام شهاب الدين بن الصيفي فأنشده‏:‏ لكل زمان من أماثل أهله برامكة يمتارهم كل معسر أبو الفضل يحيى مثل يحيى بن خالدٍ يدًا وأبوه جعفر مثل جعفر وفي الجانب الشرقي يحيى بن جعفر وفي الجانب الغربي موسى بن جعفر فذاك إلى الله الكريم شفيعنا وهذا إلى المولى الإمام المطهر يعني ساكن الجانب الشرقي صاحب الترجمة وبالجانب الغربي موسى بن جعفر الصادق‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي قاضي القضاة أبو طالب روح بن أحمد الحديثي وله ثمان وستون سنة‏.‏

وفخر النساء خديجة بنت أحمد النهروانية في شهر رمضان‏.‏

وعبد الله بن عبد الصمد بن عبد الرزاق السلمي العطار‏.‏

وأبو بكر محمد بن علي بن محمد الطوسي‏.‏

وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل القيسي مسند المغرب‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم سبع أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏

@ لسنة الخامسة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة‏:‏ فيها عزل الخليفة المستضيء بالله الحسن صندل الخادم عن الأستادارية وضيق على ولده الأمير أبي العباس أحمد لأمر بلغه عنهما وولى ابن الصاحب الأستادارية عوضًا عن صندل المذكور‏.‏

وفيها وثبت الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو على أعزاز جاءه ثلاثة في زي الأجناد فضربه واحد بسكين في رأسه فلم يجرحه وخدشت السكين خده وقتل الثلاثة فرحل صلاح الدين إلى حلب فلغا نزل عليها بعث إليه الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل نور الدين محمود أخته خاتون بنت نور الدين في الليل فدخلت عليه فقام قائمًا وقبل الأرض لها وبكى على نور الدين فسألته أن يرد عليهم أعزاز فأعطاها إياها وقدم لها من الجواهر والتحف شيئًا كثيرًا واتفق مع الملك الصالح أن من حماة وما فتحه إلى مصر له وباقي البلاد الحلبية للصالح‏.‏

وفيها قدم شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين من اليمن إلى دمشق في سلخ ذي الحجة‏.‏

وفيها فوض سيف الدولة غازي أمر الموصل إلى مجاهد الدين قيماز الخادم‏.‏

وفيها توفي علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الحافظ أبو القاسم الدمشقي المعروف بابن عساكر مولده في أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة‏.‏

كان أحد أئمة الحديث المشهورين والعلماء المذكورين سمع الكثير وسافر وصنف تاريخًا لدمشق وصنف كتبًا كثيرة وكان إمامًا في الفنون فقيها محدثًا حافظًا مؤرخًا‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ أنشدني لنفسه بالمزة‏:‏ أيا نفس ويحك جاء المشيب فماذا التصابي وماذا الغزل تولى شبابي كأن لم يكن وجاء مشيبي كأن لم يزل كأني بنفسي على غرةٍ وخطب المنون بها قد نزل فيا ليت شعري ممن أكون وما قدر الله في الأزل الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الحافظ ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر في رجب وله ثلاث وسبعون سنة إلا شهرًا‏.‏

ومجد الدين أبو منصور محمد بن أسعد بن محمد المعروف ب حفدة الطوسي العطاري الشافعي الواعظ‏.‏

وأبو حنيفة محمد بن كبيد الله الأصبهاني الخطيبي في صفر‏.‏

وأبو جعفر هبة الله بن يحيى بن البوقي الشافعي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏

يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة‏:‏ فيها تزوج السلطان صلاح الدين يوسف بالخاتون عصمة الدين بنت الأمير معين الدين أنر زوجة الملك العادل نور الدين محمود وكانت بقلعة دمشق‏.‏

وفيها كانت فتنة مقدم السودان من صعيد مصرة سار من الصعيد إلى مصر في مائة ألف أسود ليعيد الدولة المصرية الفاطمية فخرج إليه أخو صلاح الدين الملك العادل أبو بكر وأبو الهيجاء الهكاري وعز الدين موصك بمن معهم من عساكر مصر والتقوا مع السودان فكانت بينهم وقعة هائلة قتل كبير السودان المذكور ومن معه‏.‏

قال الشيخ شمس الدين يوسف في مرآة الزمان‏:‏ ‏"‏ يقال إنهم قتلوا منهم ثمانين ألفًا وعادوا إلى القاهرة‏.‏

وفيها خرج السلطان صلاح من دمشق إلى مصر وأستناب أخاه شمس الدولة توران شاه على الشام‏.‏

وجاءت الفرنج إلى داريا فأحرقوا ونهبوا وعادوا‏.‏

وفيها أمر السلطان صلاح الدين قراقوش الخادم بعمارة سور القاهرة ومصر وضيع فيه أموالًا كثيرة ولم ينتفع به أحد‏.‏

وفيها أبطل صلاح الدين المكوس التي كانت تؤخذ من الحاج بجدة مما يحمل في البحرة وعوض صاحب مكة عنها في كل سنة ثمانية آلاف إردب قمحًا تحمل إليه في البحر فتفرق في أهل الحرمين‏.‏

وفيها عمر صلاح الدين مدرسة الشافعي بالقرافة وتولى الشيخ نجم الدين الخبوشاني عمارتها‏.‏

وعمر البيمارستان في القصر ووقف عليه الأوقاف‏.‏

وفيها حج بالناس من الشام قيماز النجمي‏.‏

وفيها توفي علي بن منصور أبو الحسن السروجي الأديب مؤدب أولاد الأتابك زنكي بن آق سنقرة كان يأخذ الماء بفيه ويكتب به على الحائط كتابة حسنة كأنها كتبت بقلم الطومار وينقط ما يكتب ويشكله‏.‏

ومن شعره في فصل الربيع وفضل دمشق ومدح نور الدين قصيدة طنانة أولها‏:‏ فصل الربيع زمان نوره نور أنفاس أشجاره مسك وكافور وفيها توفي محمد بن مسعود أبو المعالي خرج إلى الحج في هذه السنة فتوفي بفند كان أديبًا فاضلًا‏.‏

ومن شعره هجو في قاضٍ ولي القضاء‏:‏ ولما إن توليت القضايا وقاض الجور من كفيك فيضا ذبحت بغير سكينٍ وإني لأرجو الذبح بالسكين أيضا وفيها توفي محمد بن عبد الله بن القاسم أبو الفضل كمال الدين الشهرزوري قاضي دمشق‏.‏

مولده في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة كان إمامًا فاضلًا فقيهًا مفتنًا كان إليه في أيام نور الدين الشهيد مع القضاء أمر المساجد والمدارس والأوقاف والحسبة والأمور الدينية والشرعية‏.‏

وكان صاحب القلم والسيف وكانت شحنجية دمشق إليه ولى فيها بعض غلمانه ثم ولاها نور الدين بعد ذلك لصلاح الدين يوسف بن أيوب قبل قدومه إلى مصر‏.‏

وكان مع فضله ودينه له الشعر الجيد وكان بينه وبين صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب الترجمة في أيام نور الدين مضاغنة‏.‏

ومن شعره‏:‏ وجاؤوا عشاء يهرعون وقد بدا بجسمي من داء الصبابة ألوان فقالوا وكل معظم بعض ما رأى أصابتك عين قلت عين وأجفان قلت‏:‏ وهذا شبه قول القائل ولم أدر من السابق‏:‏ ولما رأوني العاذلون متيمًا كئيبًا بمن أهوى وعقلي ذاهب رثوا لي وقالوا كنت بالأمس عاقلًا أصابتك عين قلت عين وحاجب الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو محمد صالح بن المبارك بن الرخلة القزاز‏.‏

والمحدث أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الأموي الديباجي الأصبهاني العثماني الإسكندراني‏.‏

وأبو الحسن علي بن عساكر‏.‏

وأبو بكر محمد بن أحمد بن ماه شاور الأصبهاني المقرئ آخر من روى عن سليمان الحافظ‏.‏

وقاضي الشام كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم بن المظفر الشهرزوري في المحرم‏.‏

والقاضي أبو الفتح نصر بن سيار بن صاعد الكتاني الهروي الحنفي مسند خراسان يوم عاشوراء وله سبع وتسعون سنة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏

السنة السابعة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة‏.‏

فيها توفي صدقة بن الحسين بن الحسن أبو الفرج الناسخ الحنبلي كان يعرف بابن الحدد كان فقيهًا مفتنًا مناظرًا‏.‏

قال أبو المظفر‏:‏ لكنه قرأ ‏"‏ الشفاء ‏"‏ وكتب الفلاسفة فتغير اعتقاده وكان يبدو من فلتات لسانه ما يدل على ذلك‏.‏

ومن شعره - رحمه الله تعالى -‏:‏ لا توطنها فليست بمقام واجتنبها فهي دار الانتقام وفيها توفي كمشتكين خادم السلطان نور الدين الشهيد‏.‏

كان من أكابر خدامه أعني مماليكه وكان ولاه الموصل نيابة عنه‏.‏

فلما مات نور الدين هرب إلى حلب وخدم شمس الدين ابن الداية ثم جاء إلى الملك الصالح ابن نور الدين الشهيد فأعطاه حارم ثم غضب عليه لأمر وطلب منه قلعة حارم بعد أن قبض عليه فامتنعوا أصحابه من تسليمها فعلقه الملك الصالح منكسًا ودخن تحت أنفه حتى مات‏.‏

وفيها توفي محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر الوزير أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء ولقبه عضد الدولة‏.‏

وكان أبوه أستادار المقتفي وأقره المستنجد‏.‏

فلما ولي المستضيء استوزره فشرع ظهير الدين أبو بكر صاحب المخزن في عداوته حتى غير قلب الخليفة عليه فطلب الحج فأذن له فتجهز جهازًا عظيمًا واشترى ستمائة جمل لحمل المنقطعين وزادهم وحمل معه جماعة من العلماء والزهاد وأخذ معه بيمارستانًا فيه جميع ما يحتاج إليه وسافر بتجمل زائد‏.‏

فلما وصل إلى باب قطفتا خرج إليه رجل صوفي بيده قصة فقال‏:‏ مظلوم‏!‏ فقال الغلمان‏:‏ هات قصتك‏.‏

فقال‏:‏ ما أسلمها إلا للوزير‏.‏

فلما دنا منه ضربه بسكين في خاصرته فصاح‏:‏ قتلتني وسقط من دابته وبقي على قارعة الطريق ملقى وتفرق من كان معه إلا حاجب الباب فإنه رمى بنفسه عليه فضربه الباطني بسكين فجرحه وظهر للباطني رفيقان فقتلوا وأحرقوا‏.‏

ثم حمل الوزير إلى داره فمات بها‏.‏

وكان مشكور السيرة محببًا إلى الرعية غير أن القاضي الفاضل لما بلغه خبر قتله أنشد‏:‏ وأحسن من نيل الوزارة للفتى حياة تريه مصرع الوزراء وما ربك بظلام للعبيد‏.‏

كان - عفا الله عنه - قد قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وخلقًا كثيرًا‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الوزير أبو الفرج محمد بن عبد الله ابن رئيس الرؤساء وثبت عليه الإسماعلية في ذي القعدة‏.‏

وهارون بن العباس أبو محمد بن المأموني صاحب التاريخ وأبو شاكر يحيى بن يوسف السقلاطوني‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وثلاث أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏

السنة الثامنة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة أربع وسبعين وخمسمائة‏.‏

فيها جرى بحث في مجلس ظهير الدين بن العطار في قتال عائشة لعلي‏.‏

فقال ابن البغدادي الحنفي‏:‏ كانت عائشة باغية على علي فصاح عليه ابن العطار وأقامه من مكانه وأخبر الخليفة فجمع الفقهاء وسأل‏:‏ ما يجب عليه فقالوا‏:‏ يعزر‏.‏

فقال ابن الجوزي‏:‏ لا يجب عليه التعزير لأنه رجل ليس له علم بالنقل وقد سمع أنه جرى قتال ولم يعلم أن السفهاء أثاروه بغير رضا الفريقين وتأديبه العفو عنه فأطلق‏.‏

وفيها توفي سعد بن محمد بن سعد أبو الفوارس شهاب الدين بن الصيفي التميمي المعروف بالحيص بيص كان شاعرًا فاضلًا مدح الخلفاء والوزراء والأكابرة وله ديوان شعرة وكانت وفاته ببغداد في شعبان‏.‏

وسبب تسميته بالحيص بيص أنه رأى الناس في يوم حركة فقال‏:‏ ما للناس في حيص بيص‏!‏ فغلب عليه هذا اللقب ومعنى هاتين الكلمتين‏:‏ الشدة والاختلاط‏.‏

تقول العرب‏:‏ وقع الناس في حيص بيص أي في شدة واختلاط‏.‏

ومن شعر الحيص بيص - رحمه الله وعفا عنه -‏:‏ لم ألق مستكبرًا إلا تحول لي عند اللقاء له الكبر الذي فيه ولا حلا لي من الدنيا ولذتها إلا مقابلتي للتيه بالتيه وكان الحيص بيص يلبس زي العرب ويتقلد سيفًا فعمل فيه أبو القاسم ابن الفضل‏:‏ كم تبادى وكم تطول طرطو - - رك ما فيك شعرة من تميم ليس ذا وجه من يضيف ولا يقري ولا يدفع الأذى عن حريم الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو أحمد أسعد بن بلدرك الجبريلي البواب‏.‏

والحيص بيص الشاعر شهاب الدين أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي في شوال‏.‏

وفخر النساء شهدة بنت أحمد بن الفرج الإبري في المحرم وقد جاوزت التسعين‏.‏

وأبو رشيد عبد الله بن عمر الأصبهاني في شهر ربيع الآخر‏.‏

وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفي‏.‏

وأبو الخطاب عمر بن محمد التاجر بدمشق‏.‏

وأبو عبد الله محمد بن نسيم العيشوني‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏